رغم سوداوية الحاضر، وبؤس الواقع المعاش، إلا أن ملامح المستقبل القادم تبدو أكثر بؤساً وشقاءً لبلاد كانت تدعى يوماً بالسعيدة.
ليس تشاؤماً -وإن كنا نتمنى أن يكون الأمر مجرد ذلك فقط- إلا أن نتائج الانتخابات الرئاسية والمحلية الأخيرة، وما صاحبها من أجواء معيبة وهزلية، تؤكد ما ذهبنا إليه.
وبالطبع، لسنا من يقول ذلك، كون الأمر متعلقاً بتقارير دولية تحذر من استمرار قيادة البلد بهذه الطريقة العقيمة التي وصفت أكثر من مرة بالفاشلة.
ويكفي لإسقاط الحكومة وخروج الجماهير للاعتصام في الشوارع والساحات العامة، ما كشفه تقرير دولي صدر مطلع الأسبوع الحالي، من أن سياسة الحزب الحاكم جعلت اليمن تحتل المرتبة ما قبل الأخيرة في قائمة أفقر دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وثاني أسوأ دولة في العالم في مستوى التغذية.
وفي اليوم الذي صدر فيه تقرير البنك الدولي، محذراً من التراجع لمتوسط دخل المواطن اليمني، قدمت الحكومة موازنتها للعام القادم ٧٠٠٢م، دون الإشارة لقضايا المواطنين وأحوالهم المعيشية.
الجميع كان يتوقع أن ترصد الموازنة مبلغاً مالياً لدعم المواد الغذائية الأساسية كالقمح والسكر والأرز، للتخفيف من أعباء الفقراء الذين لم يعد عدد كبير منهم قادراً على توفيرها نظراً للارتفاع الجنوني في أسعارها.
إلا ميزانية الحكومة البالغة تريليوناً و٤٣٤ ملياراً و٦٦١ مليون ريال، أي ما يعادل ٤٢،٨ مليار دولار، لم تضف جديداً عن الموازنات الشكلية للأعوام السابقة، سوى أنها حظيت بزيادة قدرها مليارا دولار عن موازنة عام ٦٠٠٢م.
وباستثناء عدد محدود من "شماشرجيةّ" الحزب الحاكم في البرلمان، فقد انتقد عدد كبير من أعضاء مجلس النواب مشروع الموازنة.
الموازنة قدرت نفقات العام القادم بمبلغ تريليون و٢٢٦ ملياراً و٠٩٤ مليوناً و٧٣٨ ألف ريال، بعجز مقداره ٨٨١ ملياراً و٤٢٣ مليوناً و٧٠٧ آلاف، وبنسبة تصل الى حوالي ٧،٤٪.
هكذا استطاعت الحكومة أن تجمع خلال شهر واحد بين تقديم طلب موازنة إضافية للعام ٦٠٠٢م، وموازنة العام ٧٠٠٢م، وتقدير العجز، الذي ستتقدم به، الى جانب ما يستجد، بطلب اعتماد موازنة إضافية نهاية العام المقبل.
الموازنة لم تتطرق لمعالجات جادة للفقر والبطالة والتضخم والفساد والمياه والكهرباء. وهنا أغفلت الحكومة مشروع الصالح للطاقة النووية، لترصد ٦ مليارات ريال لدعم الكهرباء، أو بمعنى أقرب للحقيقة لدعم الظلام.
وكالعادة، حظيت وزارتا الدفاع والداخلية بزيادة في الموازنة عن العام الماضي، التي عدت حينها ميزانية كبيرة مقارنة بما تحصل عليه وزارتا الصحة والتربية والتعليم.
المؤلم في الأمر أن مثل هذه الزيادة في وزارتي الدفاع والداخلية، لاتصل لأبناء القوات المسلحة والأمن، الذين يعيشون أوضاعاً مأساوية للغاية، في الوقت الذي ينعم فيه قادتهم بالفلل والقصور والسيارات الفارهة.
الموازنة التي لم تتطرق البتة لمؤتمر المانحين، ولا عائداته، وصفها رئيس الوزراء بأنها مبنية على فلسفة جديدة. وإلى جانب حديثه عن الفلسفة الجديدة، دعا عبدالقادر باجمال أثناء حضوره جلسة مجلس النواب لمناقشة الموازنة، القطاع الخاص الى دفع الضرائب التي عليهم.
ورفض باجمال الاعتراف بنسبة البطالة التي جاءت في مشروع الموازنة الصادرة عن حكومته، والمقدرة بـ٠٤٪، قائلاً إنها لاتتجاوز ٩،٦١٪ فقط، وفق وثائق دولية، حسب قوله. متناسياً أن استدلاله بوثائق دولية لمعرفة حجم الفقراء في بلده، أمر لايصدر من رئيس حكومة تقع عليه مسؤولية معرفة مثل هذه الأرقام بناءً على دراسات تنفذها الحكومة.
تطاول
رئيس الحكومة الذي لم يكلف نفسه مجرد معرفة عدد فقراء الشعب، تطاول الأسبوع الماضي على حكم الشهيد إبراهيم الحمدي، وقال إن الحمدي كان يستجدي الخارج.
وإن كانت المقارنة بين فترتي حكم الرئيس الحمدي والحكم الحالي، ليست في صالح باجمال وحزبه الحاكم البتة، إلا أن رئيس الوزراء أصر أن يقحم نفسه في هذا الأمر، وهو يتحدث في الندوة التي عقدت بصنعاء لمناقشة نتائج مؤتمر المانحين، وقبلها في مقابلة لجريدة "الجمهورية".
قد يكون باجمال لم يعايش فترة حكم إبراهيم الحمدي، لكنه يعرف أي مستوى اقتصادي نعم به المواطنون خلال تلك الفترة التي تعد بحق عصر اليمن الذهبي.
وبالطبع، يعرف حجم الاحتياطي النقدي الذي امتلكته اليمن آنذاك، والذي وصل حد إقراض اليمن لدولة كبرى وليس العكس.
الحمدي استطاع خلال ثلاث سنوات، أن يحدث نهضة عمرانية وتنموية واقتصادية، وتمكن من تأسيس بنى تحتية للبلد، وبنى مدناً للعمال والموظفين، وكل ذلك في غياب النفط والثروات الحاصلة اليوم لليمن.
الشهيد الحمدي لم يستجدِ أحداً، ولم يكن يقبل الهوان أو الذل لشعبه. وفي عهده كان العامل البسيط في الخارج يحظى باحترام وتقدير دولة المهجر، على عكس ما هو حاصل اليوم.
ويكفي الحمدي أن معالم خطته الخمسية لاتزال حاضرة حتى اليوم، كما هو حاضر في قلوب كل من عايشوا مرحلته، وإن لم يكن باجمال منهم.
وما كان للحمدي أن يصنع ما صنعه خلال فترة قياسية، لولا حنكته ونزاهته وحسه الوطني العالي. ويعلم الجميع -ومنهم باجمال- جيداً أن الحمدي لم تكن له أرصدة شخصية في بنوك مختلفة من العالم، وكذلك أبناؤه وأفراد أسرته. كما لم يكن رئيس وزرائه يملك شركات عملاقة ولا عقارات وفللاً في أرقى شوارع باريس ولندن.
ولهذا، استطاع الحمدي أن يحقق للوطن في ثلاث سنوات، ما عجز عنه الآخرون في ثلاثين عاماً.
وعود
في انتظار موافقة البرلمان على مشروع موازنة الحكومة لعام ٧٠٠٢م، تستمر معدلات الفقر في ارتفاع مخيف، مثلما يواصل رغيف الخبز والروتي انقراضهما بشكل مرعب، دون حسيب أو رقيب.
أمام كل هذا، ليس للمواطنين إلا أن يتذكروا تلك الجدية المفتعلة التي كان رئيس الجمهورية وحزبه الحاكم يحاول الظهور بها أمام الشعب وهو يتلو عليهم وعوداً انتخابية فضفاضة بيمن جديد ومستقبل أفضل.
وها هو الرئيس قد فاز في الانتخابات -بغض النظر عن الطريقة- محطماً بذلك الرقم القياسي في البقاء على سدة الحكم، فأين ذهبت وعوده؟ فها هو ارتفاع الأسعار المتتالي يدحض وعوده بانتهاء عصر الجرع.
الرئيس قال في أحد خطاباته للجماهير: انتهى عصر الجرع السعرية، ومن يحدثكم بغير ذلك فهو كاذب. فما الذي يحصل اليوم؟ ومن الكاذب؟!
تحدث الرئيس وحزبه الحاكم عن كفالة حرية الرأي والرأي الآخر، والاهتمام بحقوق وحريات الشعب، إلا أن ما يحدث في أروقة نيابة الصحافة والمطبوعات وقاعات المحاكم، ينافي ذلك. وخلال أسبوع واحد فقط، مثلت أكثر من أربع صحف حزبية وأهلية أمام القضاء، آخرها "الرأي العام" التي أغلقت بالشمع الأحمر.
الرئيس تحدث كثيراً، قبيل الانتخابات، عن الحد من نسب البطالة والفقر، لكن نسبة البطالة ارتفعت بشكل ملحوظ عقب الانتخابات، جراء ارتفاع أسعار مواد البناء.
من حق الرئيس علي عبدالله صالح والمؤتمر الشعبي أن يحكما اليمن، لكن من حق الشعب على الرئيس أن يلمس الوعود التي قطعها صالح على نفسه قبل الانتخابات.
لا شيء يجبر الشعب على تحمل رجل قرابة ثلاثين عاماً، إذا لم يتخذ جملة من الإصلاحات العاجلة للحفاظ على شريحة واسعة من الفقراء المهددين بالمجاعة، ووضع خطط واستراتيجيات لإصلاحات جذرية على المستوى السياسي والاقتصادي والتشريعي، للنهوض بالوطن الى الأعلى، أسوة بما هو حاصل في دول أقل منا ثروة.
أحزاب اللقاء المشترك وكل القوى السياسية الخيرة في البلد، بح صوتها جراء مطالبها المتكررة عبر الكلمة المقروءة والمسموعة والتصريحات والمؤتمرات والبيانات، بإجراء إصلاحات شاملة. إلا أن عقلية النظام السياسي القائمة على إلغاء الآخر، والتغييب الكامل لقواعد الشفافية والمحاسبة، تقاوم بشراسة أية إصلاحات تطالب بها المعارضة.